سورة الفرقان - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3)}
قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ} {تَبارَكَ} اختلف في معناه، فقال الفراء: هو في العربية و{تقدس} واحد، وهما للعظمة.
وقال الزجاج: {تَبارَكَ} تفاعل من البركة. قال: ومعنى البركة الكثرة من كل ذى خير.
وقيل: {تَبارَكَ} تعالى.
وقيل: تعالى عطاؤه، أي زاد وكثر.
وقيل: المعنى دام وثبت إنعامه. قال النحاس: وهذا أولاها في اللغة والاشتقاق، من برك الشيء إذا ثبت ومنه برك الجمل والطير على الماء، أي دام وثبت. فأما القول الأول فمخلط، لان التقديس إنما هو من الطهارة وليس من ذا في شي. قال الثعلبي: ويقال تبارك الله، ولا يقال متبارك ولا مبارك، لأنه ينتهى في أسمائه وصفاته إلى حيث ورد التوقيف.
وقال الطرماح:
تباركت لا معط لشيء منعته *** وليس لما أعطيت يا رب مانع
وقال آخر:
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر ***
قلت: قد ذكر بعض العلماء في أسمائه الحسنى {المبارك} وذكرناه أيضا في كتابنا. فإن كان وقع اتفاق على أنه لا يقال فيسلم للإجماع. وإن كان وقع فيه اختلاف فكثير من الأسماء أختلف في عده، كالدهر وغيره. وقد نبهنا على ذلك هنالك، والحمد لله. و{الْفُرْقانَ} القرآن.
وقيل: إنه اسم لكل منزل، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ}.
وفي تسميته فرقانا وجهان: أحدهما- لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر.
الثاني- لان فيه بيان ما شرع من حلال وحرام، حكاه النقاش. {عَلى عَبْدِهِ} يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً} اسم {يكون} مضمر يعود على {عَبْدِهِ} وهو أولى لأنه أقرب إليه. ويجوز أن يكون يعود على {الْفُرْقانَ}. وقرأ عبد الله بن الزبير {على عباده}. ويقال: أنذر إذا خوف، وقد تقدم في أول البقرة. والنذير: المحذر من الهلاك. الجوهري: والنذير المنذر، والنذير الإنذار. والمراد ب {العالمين} هنا الانس والجن، لان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح فإنه عم برسالته جميع الانس بعد الطوفان، لأنه بدأ به الخلق. قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} عظم تعالى نفسه. {ولم يتخذ ولدا} نزه سبحانه وتعالى نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله، يعني بنات الله سبحانه وتعالى. وعما قالت اليهود: عزير ابن الله، جل الله تعالى. وعما قالت النصارى: المسيح ابن الله، تعالى الله عن ذلك. {ولم يكن له شريك في الملك} كما قال عبدة الأوثان.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} لا كما قال المجوس والثنوية: إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء. ولا كما يقول من قال: للمخلوق قدرة الإيجاد. فالآية رد على هؤلاء. {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد، لا عن سهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة، وبعد القيامة، فهو الخالق المقدر، فإياه فاعبدوه. قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} ذكر ما صنع المشركون على جهة التعجيب في اتخاذهم الآلهة، مع ما أظهر من الدلالة على وحدانيته وقدرته. {لا يَخْلُقُ شَيْئاً} يعني الآلهة. {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لما اعتقد المشركون فيها أنها تضر وتنفع، عبر عنها كما يعبر عما يعقل. {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} أي لا دفع ضر وجلب نفع، فحذف المضاف.
وقيل: لا يقدرون أن يضروا أنفسهم أو ينفعوها بشيء، ولا لمن يعبدهم، لأنها جمادات. {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً} أي لا يميتون أحدا، ولا يحيونه. والنشور: الأحياء بعد الموت، أنشر الله الموتى فنشروا. وقد تقدم.
وقال الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجبا للميت الناشر


{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني مشركي قريش.
وقال ابن عباس: القائل منهم ذلك النضر بن الحرث، وكذا كل ما في القرآن فيه ذكر الأساطير. قال محمد بن إسحاق: وكان مؤذيا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {إِنْ هَذا} يعني القرآن. {إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ} أي كذب اختلقه. {وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني اليهود، قاله مجاهد.
وقال ابن عباس:
المراد بقوله: {قَوْمٌ آخَرُونَ} أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وعداس وجبر، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب. وقد مضى في النحل ذكرهم. {فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً} أي بظلم.
وقيل: المعنى فقد أتوا ظلما. {وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ} قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث.
وقال غيره: أساطير جمع أسطار، مثل أقوال وأقاويل. {اكْتَتَبَها} يعني محمدا. {فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ} أي تلقى عليه وتقرأ. {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} حتى تحفظ. و{تُمْلى} أصله تملل، فأبدلت اللام الأخيرة ياء من التضعيف: كقولهم: تقضى البازي، وشبهه. قوله تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي قل يا محمد أنزل هذا القرآن الذي يعلم السر، فهو عالم الغيب، فلا يحتاج إلى معلم. وذكر {السِّرَّ} دون الجهر، لأنه من علم السر فهو في الجهر أعلم. ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها، وقد جاء بفنون تخرج عنها، فليس مأخوذا منها. وأيضا ولو كان مأخوذا من هؤلاء لتمكن المشركون منه أيضا كما تمكن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهلا عارضوه فبطل اعتراضهم من كل وجه. {إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً} يريد غفورا لأوليائه رحيما بهم.


{وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8)}
قوله تعالى: {وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَقالُوا} ذكر شيئا آخر من مطاعنهم. والضمير في {قالُوا} لقريش، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجلس مشهور، وقد تقدم في {سبحان}. ذكره ابن إسحاق في السيرة وغيره. مضمنة- أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا: يا محمد! إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا، فلما أبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك رجعوا في باب الاحتجاج معه فقالوا: ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام، وتقف بالأسواق! فعيروه بأكل الطعام، لأنهم أرادوا أن يكون الرسول ملكا، وعيروه بالمشي في الأسواق حين رأوا الاكاسرة والقياصرة والملوك الجبابرة يترفعون عن الأسواق، وكان عليه السلام يخالطهم في أسواقهم، ويأمرهم وينهاهم، فقالوا: هذا يطلب أن يتملك علينا، فماله يخالف سيرة الملوك، فأجابهم الله بقوله، وأنزل على نبيه: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} فلا تغتم ولا تحزن، فإنها شكاة ظاهر عنك عارها.
الثانية: دخول الأسواق مباح للتجارة وطلب المعاش. وكان عليه السلام يدخلها لحاجته، ولتذكرة الخلق بأمر الله ودعوته، ويعرض نفسه فيها على القبائل، لعل الله أن يرجع بهم إلى الحق. وفى البخاري في صفته عليه السلام: «ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق». وقد تقدم في الأعراف
. وذكر السوق مذكور في غير ما حديث، ذكره أهل الصحيح. وتجارة الصحابة فيها معروفة، وخاصة المهاجرين، كما قال أبو هريرة: وإن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، خرجه البخاري. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في هذه السورة إن شاء الله. قوله تعالى: {لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي هلا. {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} جواب الاستفهام. {أَوْ يُلْقى} في موضع رفع، والمعنى: أو هلا يلقى {إِلَيْهِ كَنْزٌ} {أَوْ} هلا {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها} {يَأْكُلُ} بالياء قرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم. وقرأ سائر الكوفيين بالنون، والقراءتان حسنتان تؤديان عن معنى، وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده فأن يعود الضمير عليه أبين، ذكره النحاس. {وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً} تقدم في سبحان والقائل عبد الله بن الزبعرى فيما ذكره الماوردي.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8